الدستور - 22/11/2008
في انتظار وصول العروسة وقفت في استقبال المعازيم، اكتشفت أن هناك العديد من الأقارب الذين لم أرهم منذ سنوات ، كان هناك من يشير إلي الصلع الذي بدأ يغزو رأسي بخفة دم مصطنعة.
هل كانت مجرد صدفة أن يُقام فرح شقيقتي«ليلي» في الاستاد في اليوم نفسه الذي أقيمت فيه مباراة مصر وساحل العاج في بطولة الأمم الأفريقية الماضية؟
أفضل ثلاثة أماكن لإقامة فرح في سوهاج «حيث تقيم عائلتي» هي نادي الشرطة والنادي البحري والاستاد الرياضي، اختار العريس الاستاد بحكم الأعداد الغفيرة المتوقعة.
قبلها بأيام سألتني أمي في التليفون سؤالا عابرا: «هتلبس إيه في فرح ليلي؟»، اكتشفت أنني لست من هواة ارتداء البدل وهو ما يبرر عدم امتلاكي لبدلة كاملة غير البدلة التي ارتديتها في فرحي، توقفت كثيرا أمام هذه البدلة التي تذكرني بفشل ما في حياتي، قصة زواج لم تعرف الاستقرار إلا في أيام شهر العسل، فجأة تذكرت أمي ،كانت أمي تكرر دائما في حكاياتها أن شهر عسلها تم تأجيله بسبب قيام حرب أكتوبر وبسبب ظروف سفر والدي، وأصبح شهر العسل بالنسبة لها حلما مؤجلا، ثم حلما بعيدا بعد أن أصبحت حاملا فيّ، ثم حلما لا مجال لتحقيقه بعد أن أصبحت «أم عمر».
قررت شراء واحدة جديدة من محل يحمل اسما أجنبيا في المهندسين، كان البنطلون أطول مما ينبغي فتركته حتي يتم تقصيره قليلا، ثم تسلمتها قبل أن أستقل القطار بساعة.
في محطة مصر كنت حريصا علي شراء البانادول من العزبي والصحف من كشك الأهرام وسجائر وبطاريات جديدة من الكافيتريا، وفي القطار أخرجت الـ mp3 وغيرت البطاريات وضغطت play ونظرت إلي الساعة فوجدتها الواحدة صباحا ،أغمضت عيني قليلا، وفي تمام التاسعة استيقظت مفزوعا فوجدت القطار يقف علي رصيف محطة سوهاج، نزلت مهرولا ووقفت علي الرصيف لمدة خمس دقائق لاستيعاب ماحدث، أشعلت سيجارة، ثم قررت أن أدخل سوهاج علي أنغام الموسيقي، بحثت في القائمة فوجدت file فيروز يناديني فاخترت «نسّم علينا الهوي».
فتحت لي العروسة باب البيت بنفسها، كانت تشكو من صداعاً من فرط ما بذلته من مجهود في ليلة الحنة، أخرجت لها شريط البانادول، تأملتها وهي تأخذ واحدة، لقد كبرت هذه الطفلة وستصبح زوجة بعد ساعات، ابتسمت فاحتضنتني.
تحت الدش كانت الذكريات التي تجمعني ب«ليلي» متلاحقة كشريط سينمائي، وصلت ليلي إلي بيتنا وأنا في بداية فترة المراهقة،كان لا يحلو لها اللعب إلا في حجرتي، كنت أنقل عيني بين الكتب وبينها وهي نائمة في فراشي كملاك، تصحو فلا تصرخ كبقية الأطفال ولكن تبتسم وتبدأ في إفراز « التفافة» معلنة موقفها من الحياة، كانت لا تشعر براحتها إلا في حجرتي فاعتبرت أن غرفتي هي «بيت الراحة» لذلك كانت تتسحب من الجميع وتحبو حتي تصل إلي باب الحجرة، تدفعه ثم تنظر ناحيتي قائلة « كاكا»!
في أول يوم لها في المدرسة دخلت غاضبة وسألت أمها: «ماما يعني إيه مسيحي؟»، سألتها أمها عن سبب السؤال فقالت: «أصحابي في المدرسة سألوني النهاردة أنتي مسلم ولا مسيحي»، فقالت لها أمها «وإنتي قلتي لهم إيه؟» فقالت « قلت لهم أنا ماعرفش يعني إيه مسيحي بس أنا مسلم؟»، فشرحت لها الأم الفروق بمنتهي التسامح للدرجة التي جعلت «ماري» هي أنتيمة أختي حتي هذا اليوم.
في أحد أيام رمضان أيقظتني ليلي في الواحدة ظهرا طفلة تحمل كوب الشاي بالحليب والبسكويت، وقالت لي «اصحي علشان تفطر»، قلت لها «أنا صايم»، فقالت لي «ما أنا عارفه.. بس أنا عايزة أدخل الجنة والنهاردة في المدرسة قالوا من أفطر صائما دخل الجنة.. قوم بقي عشان تفطر»!
كانت هوايتها المفضلة الوقوف أمام التليفزيون والتنقل بين القنوات سريعا، وفي إحدي المرات كنت جالسا وهي تقلّب كالعادة ،و توقفت عند مشهد من فيلم تاريخي، كان هناك شخص يقف علي باب قاعة الملك وصاح قائلا« رسول ملك الفرس» فقالت ليلي بمنتهي الخشوع « عليه الصلاة والسلام»!
وفي زلزال 92 كنت متاكدا أن «البيت بيقع»، وكل ما فكرت فيه أن أصطحب شيئا قيما لأفرَّ به هاربا قبل أن يتحول البيت لأنقاض، تلفَّت فلم أجد شيئا أغلي منها فحملتها علي كتفي ونزلت السلالم مهرولا.
خرجت من الحمام أضحك فوجدت خالي في انتظاري قائلا «هنتفرج علي الماتش ازاي النهاردة؟»!
كنت قلقا بخصوص المباراة أنا وخالي وزوج شقيقتي الكبري، بينما أكد لي ابن عمي أننا سنلحق بآخر ربع ساعة في المبارة، وقال لي أنني لم أحضر أفراحا في الصعيد منذ فترة ونسيت أن الأفراح تنتهي مبكرا، في الحقيقة آخر فرح حضرته كان فرح شقيقتي الوسطي منذ 3 سنوات ولم أحضره لنهايته لاضطراري إلي السفر مبكرا، وظلت شقيقتي الوسطي «تعايرني» بأنها لم ترقص معي في فرحها _حتي بعد أن أصبحت أما لطفل يحمل الخصائص النفسية للزعيم هتلر_ ، وكلما جاءت سيرة الأفراح أمامها كانت لا تتردد في تذكيري بهذا التقصير.
قبل الفرح بساعة اكتشفت أن محل البدل أفرط في تقصير البنطلون، قلت لنفسي مش مشكلة «هانزّل البنطلون شوية وازنقه بالحزام»، اكتشفت أنني لم أُحضر «حزاماً»، لم يكن هناك اختيار سوي شراء حزام وهذه مأساة أخري في سوهاج، حيث لم أجد واحدا أنيقا يلائم البدلة، فاضطررت لشراء «أحسن الوحشين» وكان الـ contrast فاضحا بين البدلة ذات الماركة العالمية والحزام السوهاجي، فقررت أن أُبقي الجاكيت مغلقا طوال الفرح.
في انتظار وصول العروسة وقفت في استقبال المعازيم، اكتشفت أن هناك العديد من الأقارب الذين لم أرهم منذ سنوات ، كان هناك من يشير إلي الصلع الذي بدأ يغزو رأسي بخفة دم مصطنعة، وهناك من ربط بينه وبين ضرورة أن أتزوج ثانية بسرعة قبل أن يسيطر علي رأسي كلها، وهناك من نصحني بضرورة الزواج؛ لأنه هو الحاجة الوحيدة اللي هترجع لي شعري تاني.
كان هناك من يصافحني وهو فخور بأنني أصبحت أول من يحمل لقب «كاتب» في عائلة يحمل أبناؤها كل الألقاب ماعدا لقبي «كاتب ورائد فضاء»، وكان هناك من يصافحني وهو فخور؛ لأنه رآني في «البيت بيتك».
هناك من دعاني إلي تدخين سيجارة حشيش فاعتذرت له فسألني «أُمَّال عايش إزاي؟»، وهناك من دسَّ في يدي وهو يصافحني قطعة أفيون لتمنحني الـpower اللازم للوقوف بصلابة وقوة حتي نهاية الفرح، لم يكن هناك مجال للاعتذار فوضعتها في جيبي .
وصل العروسان متأخرين، وبعد الزفة الصعيدي استقبلهما ال dj بنشيد «محمد نبينا »، تذكرت فرح صديقي طبيب الأسنان أيمن ماهر «لا يبدو من اسمه أنه مسيحي» عندما استقبله الdj في فرحه بالنشيد نفسه، الأمر الذي أصاب بعض الحاضرين بالوجوم وأصاب البعض الآخر بهيستريا من الضحك! تذكرت والد أيمن وهو رجل جميل عندما منع شقيق العروس من أن يطلب من الـdj تغيير الأغنية، واستمعت إليها القاعة كاملة حتي انتهت وضجَّت القاعة كلها بالابتسام والتصفيق، بعدها بسنة أنجب أيمن فاتصلت لأهنئه وسألته عن اسم المولود فقال لي وهو يقهقه «عبد الرحمن».
كان الفرح هادئا، وكنت أقف لمتابعته بوقار، حتي انصرف كبار العائلة ،وأثناء وداعهم علي الباب لمحت زوج شقيقتي الكبري وهو يقف أمام أحد الكافيهات يشاهد المباراة من علي الباب، فدفعته ودخلنا وجلسنا نشاهد المباراة حتي نهاية الشوط الأول.
عدت بعدها إلي الفرح أوزع ابتساماتي علي الجميع وأصفق لقليلين كانوا يرقصون، ثم عدت إلي الكافيه ولم أقو علي مغادرته حتي أحرز عمرو زكي الهدف الثالث فعدت إلي الفرح، عدت مباشرة إلي ساحة الرقص وأنا سعيد بالفعل ،أخذت ليلي في حضني وقبلتها ورقصنا وفجأة أعلن الـdj أن «أبو تريكة» أحرز الهدف الرابع، فحملت ابن شقيقتي فوق أكتافي ورقصت به، ومع نهاية الماتش تسلل من كانوا في الكافيه إلي الفرح وهم يحملون أعلام مصر وأحاطوا بنا، وفجأة قرر الـdj أن يلعب أغنية حلوة يا بلدي فأثار مشاعر كل من تبقي في الفرح فاتسعت حلبة الرقص لتضم عروسا محاطة بأعلام مصر وشباباً يضحكون من قلوبهم وكباراً يدعمون هذه الفرحة بالتصفيق عن قرب، فجأة لعب الـdj أغنية أحبها جدا لعمرو دياب «ليلة من عمري » وفوجئت بشقيقتي الوسطي تقترب مني وهي تقول لي «أنا اللي طلبت الغنوة دي عشان أرقص معاك عشان ...» فقلت لها « عارف عشان مارقصتش معاكي في فرحك»، احتضنتها وظللنا نرقص سويا حتي انتهاء الفرح.
أول ما فعلته عند عودتي إلي المنزل هو خلع الحزام ورميه بعيدا ..بعيدا جدا.
لمحت دموع أمي قبل النوم، كانت لفترة طويلة تعيش هي وأبي وليلي طفلتهم المدللة، فجأة أصبح البيت خاليا.
التزمت الصمت التام أمام دموعها، فأي كلمات ستكون ساذجة في هذة اللحظة.
قبلت يديها وذهبت إلي النوم متعبا.
في الصباح استيقظت لأسافر عائدا إلي القاهرة ، خرجت من غرفتي فوجدت أبي وأمي يجلسان سويا يتابعان فيلما في روتانا زمان ويشربان الشاي في هدوء.
ودعتهما.. صافحت أمي وقلت لها « آن الأوان بقي تعملي شهر العسل المتأجل بقاله كتير» فضحكت.
صافحت أبي ودسست في يده قطعة الأفيون، فنظر لها مبتسما ثم وضعها في جيب قميصي العلوي وهو يربت علي كتفي قائلا بثقة مبالغ فيها «خليهالك».
بعد أن تجاوزت البيت بأمتار وجدت أبي ينادي، فعدت اليه فألقي لي من البلكونة كيسا بلاستيكيا، قبل أن أفتحه نظرت إليه مستفسرا فقال لي «نسيت الحزام»!
عَـــادِل حَسَــب اـلّـه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق